برامج المقالب العربية... الضحك المؤذي

فتاة تسقط أرضاً لتكتشف بعدها أن أحدهم سحب الكرسي قبل جلوسها عمداً، وأب يجد حديثه الودي مع نجله في المنزل من الأكثر تداولاً على السوشال ميديا، وثالث بات محط سخرية بعدما بدا يائساً وهو يحاول أن يصل إلى مصدر الماء الملقى عليه، بينما يقف منتظراً مشروبه في مقهى شهير، الكاميرا الخفية خرجت عن السيطرة تماماً في زمن تطبيقات "السوشال ميديا" ومن أبرزها بالطبع "تيك توك"، فهذه النوعية من برامج التلفزيون مهما علا سقفها لها حدود، لكن حينما يمسك المراهقون والراغبون في الشهرة كاميرات الهواتف، فإنهم لا يفرقون بين زميل يمكن المزاح معه، وبين خصوصية البيوت، وفضيلة عدم نشر فيديوهات محرجة لأشخاص لا يعرفونه،. فمرة يكون المحتوى هدفه إثارة الرعب في نفس الآخر، أو السخرية منه أو حتى الابتزاز العاطفي الكامل، من طريق التظاهر بالحاجة إلى المساعدة ثم خداع من يتدخل.

ويبدو أن الرغبة في استغلال مشاعر المتابعين لها القوة الكبرى من طريق تصوير فئات بسيطة تعاني مثلاً في الحصول على الطعام أو تجتهد في عمل شاق من أجل كسب القوت اليومي، المفارقة أن أحداً لم يعد يعرف الفرق بين الحقيقة والتضليل في ما يجري لتتحول الكاميرا الخفية من وسيلة هدفها الإضحاك فقط، عرفها العالم مبكراً إلى طريقة بائسة لاجتذاب المشاهدين مهما كان الثمن.

كاميرا فؤاد المهندس

تعد فكرة الكاميرا الخفية من أقدم أنواع برامج تلفزيون الواقع، ففي حين عرف الجمهور تلك البرامج التي تعتمد على المعايشة الحقيقية في تسعينيات القرن الماضي، فإن مقالب الكاميرا الخفية عبر التلفزيون بدأت مع نهاية الأربعينيات عبر قناة "سي بي أس" الأميركية، وعلى رغم انتشار الكاميرات في البيوت بعد ذلك بعقود، وتخصيص فقرات بكاملها للفيديوهات المنزلية التي تمثل مفارقات عفوية لا تستند إلى سيناريو معد سلفاً، ظلت برامج الكاميرا الخفية الاحترافية تجتذب المشاهدين لاعتمادها ربما على خدعة طرف لطرف آخر، حيث يوضع شخص تحت ضغط معين ليشهد الجمهور تصرفه، واستمرت تلك البرامج لفترة طويلة وكان هدفها الإضحاك والطرافة وليس السخرية أو التنمر وإثارة الفضائح.

وحاولت التلفزيونات العربية استقدام تلك الفكرة، ولكن تأخر الأمر بعض الشيء بخاصة أن انتشار أجهزة التلفزيون في العالم العربي بدأ منذ الستينيات تقريباً، حيث جرت تجارب في التلفزيون الجزائري مطلع سبعينيات القرن الماضي، ولكن التجربة الأكثر انتشاراً في مهد هذا النوع من البرامج عربياً كانت من تقديم الفنان المصري فؤاد المهندس عام 1983، حيث عرض برنامجه في عدد من المحطات العربية ولم يقتصر على مصر فقط، وكان البرنامج يتميز بمقدمة شهيرة أدتها الفنانة أنوشكا، وهو "التيتر" الذي ظل مصاحباً لعديد من مواسم برنامج الكاميرا الخفية المصرية لعقود، حيث كان يبدأ سير الحلقة بأن يظهر فؤاد المهندس ليحكي عن فكرة المقلب الذي يشارك فيه عدد من الممثلين وبينهم محمد جبر وإسماعيل يسري، وكانت الأفكار فكاهية للغاية ويقوم فيها البطل بالإقدام على تصرف غير متوقع في مكان عام مثل المطعم أو الشارع لترصد الكاميرا المخبأة ردرود أفعال الناس، ولا تزال بعض الحلقات على رغم قدمها تنتشر عبر موقع "يوتيوب" وتنتزع الضحكات حتى اليوم.

من الشارع إلى الأستوديو

بعدها ارتبطت تلك النوعية من البرامج بشكل وثيق بشهر رمضان، وباتت من طقوسه الراسخة، حيث كانت المائدة عامرة للغاية ببرامج خفيفة في الفواصل بين الأعمال الدرامية، ووصلت تلك البرامج ذروتها في تسعينيات القرن الماضي مع مجموعة مواسم قدمها الفنان إبراهيم نصر، معتمداً على أفكار أكثر جرأة، حيث يحاول خداع الأشخاص متقمصاً شخصية ذات صفات وتصرفات غريبة عادة وبينها شخصية "زكية زكريا" الشهيرة، وفجرت تلك المقالب ضحكات كثيرة من المشاهدين في المنازل لتستمر "الكاميرا الخفية" بسبب إبراهيم نصر كمعلم أساس من أهم معالم موسم رمضان الفني، تلت ذلك محاولات كثيرة من ممثلين آخرين نزلوا إلى الشارع بإمكانات بسيطة وبكاميرا خفية، وانتزعوا ضحكات الجمهور أيضاً، حيث يضعون الضحية في موقف لا يحسد عليه ويتركونه على طبيعته قبل أن يكشفوا عن هويتهم في نهاية الحلقة، فقد كان الشارع والمواطن العادي هو الضحية الأولى، بالتالي كان لدى المشاهدين يقين بأن المقالب حقيقية لا يمثلها نجوم محترفون يسيرون وفق سيناريو محدد.
مع بداية الألفية الثالثة، بدأ كثير من الفنانين الاتجاه إلى هذا النوع من البرامج، لكنهم حرصوا على أن تكون التجربة بكاملها في الأستدويو، وبينهم حسين الإمام وأشرف عبد الباقي وعمرو رمزي وانتصار، حيث حدث تحول في نوعية الضحايا الذين باتوا زملاءهم المشاهير، ثم في مراحل تالية انضم هاني رمزي وفيفي عبده لتبقى التجربة الأبرز تجربة رامز جلال الذي على مدار أكثر من عشر سنوات باتت مقالبه طبقاً أساسياً في رمضان، حيث انتقل من مرحلة الإضحاك بجدارة إلى الهلع المتعمد، وتسبب في أزمات صحية لبعض المشاهير المشاركين في البرنامج، وعلى رغم الانتقادات التي يتعرض لها كل عام إلا أن برنامجه يصعد دوماً في قوائم الأعلى مشاهدة، حيث يتفنن في خداع الضيوف من نجوم مجتمع وفن ورياضة، ويطير بهم في الجو وينزل بهم تحت الأرض ويغوص معهم في البحر وهم يصرخون بلا توقف.
وعلى رغم التصريحات الموثقة بالفيديو لكثير من الفنانين الذين ظهروا مع رامز جلال، حيث يؤكدون أن المقلب مفبرك تماماً، وأنهم كانوا على علم بتفاصيله قبل تصوير الحلقة وأن ردود أفعالهم تمثيلية متفق عليها مقابل حصولهم على أجر كبير لتصوير الحلقة، لكن لا يزال برنامجه الأول في فئة تلك البرامج بالأرقام، كما أنه الأكثر استمرارية.

المشاهير سبب فساد "المقلب"؟

المؤكد أن ظهور المشاهير في برامج الكاميرا الخفية قلل كثيراً من مصداقيتها، حيث تسرب الشك إلى نفوس المشاهدين الذين يعتقدون أن المقلب متفق عليه لخداعهم، ومع ذلك فالمشاهير أيضاً هم أحد الأسباب الرئيسة لزيادة نسب المشاهدة، فالجماهير دوماً تلهث وراء متابعة أخبار النجوم ويرغبون في رؤيتهم يقعون في موقف محرج.
ومع الميزانيات الضخمة التي تنفق على البرامج التي تنتجها كبرى المؤسسات في العالم العربي، حيث المنافسة كبيرة بين المحطات، وإن كان بعضها يتفوق بفارق كبير، تأتي كاميرا هاتف يحملها هاو لتكسر أرقام المشاهدات وتحقق نسب انتشار واسعة للغاية، بخاصة وأن أغلب تلك المواقف، وليس كلها بالطبع، أكثر عفوية وتلقائية نظراً لأن أبطالها يشبهون كل الناس، وهي مواقف على بساطتها تحمل مفارقات طبيعية ليست معدة وفق سيناريو مسبق، ولا تجهيزات ستديوهات ضخمة أو ديكورات مبهرة، على رغم أنه طوال الوقت هناك مآخذ على مدى أخلاقية ما يحدث من استغلال واضح لمشاعر الناس ومحاولة إرباكهم والتنافس على القفز فوق الخطوط الحمراء، ولكن اللافت أن تلك الملاحظات أيضاً لم تفلت منها البرامج التي تقف وراءها مؤسسات لها كيان قانوني واسم كبير في سوق الإعلام.

الكاميرا الخفية "الطيبة"

مع ذلك يرى فادي رمزي، المتخصص في الإعلام الرقمي، المحاضر في الجامعة الأميركية بالقاهرة، أن "السوشال ميديا لن تتمكن بسهولة من سحب البساط من هذه البرامج فهو يتوقع أنه لمدة ست أو سبع سنوات مقبلة على الأقل سيظل التلفزيون يسير بموازاة تلك الوسائل، كما أن البرامج لديها ميزة مهمة، وهي أنه يقوم عليها فريق عمل محترف يمكنه تقديم حبكة متقنة لفكرة مقلب بفقراته المتنوعة"، مشيراً إلى أن "كل ما هو موجود على مواقع التواصل الاجتماعي يصنف في الغالب على أنه تجارب فردية، بالتالي فإن شكل البرنامج على قناة تلفزيونية يكون أقوى وأكثر جذباً مما يتيح له الاستمرارية لبعض الوقت نظراً إلى طريقة تقديمه التي تجتذب فضول المشاهدين".
ويلاحَظ أيضاً أن تكرار أفكار برامج الكاميرا الخفية التقليدية أصابت بعض الجمهور بالملل، وهنا تولد نوع مختلف يمكن أن يطلق عليه تسمية "الكاميرا الخفية الطيبة"، حيث يتم تمثيل موقف ما في مكان عام لحث الجمهور على التصرف بشكل إيجابي ومساعدة الآخرين، أو التدخل من أجل حماية شخص يتعرض للظلم، وقدمت بهذا الصدد سلسلة برامج بتنويعات وأسماء مختلفة كان هدفها إنسانياً في المقام الأول، وارتبط عرضها كذلك بالموسم الرمضاني، لكن على القائمين عليها أيضاً ضغط كبير يتمثل بضرورة تطويرها كي لا تشيخ باكراً أيضاً، بخاصةً وأن الجمهور نظراً لشدة اهتمامه بتلك الفقرات بات يكتشف بسهولة أنه ضحية مقلب ما، ويتصرف على هذا الأساس فيفسد المشهد من البداية أو يستمر ويشارك عمداً في التمثيل.