العنف على شاشة هوليوود... صناعة سينمائية هاجسها الترفيه

حين نتحدث عن علاقة السينما بالعنف فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا العلاقة القوية التي تجمع هذا المفهوم بالسينما الأميركية المعاصرة، ذلك أن كثيراً مما تنتجه هوليوود سنوياً يضمر في طياته اشتغالاً مكثفاً على مفهوم العنف في دلالاته المختلفة. إلا أن التصدي لظاهرة العف من الناحية السينمائية يكون وفق مستويات مختلفة ومتنوعة من المعالجة.

وعلى رغم زحم الموضوعات الأخرى التي تعالجها السينما الأميركية، يبقى العنف إحدى أبرز التيمات التي تحرك الفن السابع في هوليوود وتدفعه إلى تحقيق رواج تجاري يتفوق في غالب الأحيان على صناعات أخرى.

غالب أفلام العنف التي شاهدناها طوال حياتنا كتب وصور وأنتج داخل استوديوهات أميركية إصبع العنف بالنسبة لها علامة بارزة على استمرارية صناعتها في مراحل عدة من التاريخ وداخل أزمنة سياسية مختلفة.

ويرى بعض الباحثين أن السبب الذي يجعل السينما الأميركية تستطرد في استخدام العنف وأفلام الخيال العلمي يرجع إلى المناخ الذهني للولايات المتحدة، الذي يدفع الناس إلى التوجس ونسج أفكار وأساطير حوله.

غير أن الأفلام التي صورت منذ سبعينيات القرن الـ20، ترجع ذلك على مفهوم الواقع الأميركي المركب. هذه الفكرة بالضبط يبدو وكأن المخرج مارتن سكورسيزي عبر عنها في فيلمه "عصابات نيويورك". إنه فيلم يظهر مختلف مظاهر الصراع التاريخي الذي رافق مدينة نيويورك. صراعات متنوعة بين الوافدين إلى المدينة وعالمهم الجديد ثم الصراع المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت، مع التوقف عند ملامح الحرب الأهلية وبدايات نشوء الديمقراطية في أميركا خلال القرن الـ19.

يقول الباحث عبدالعالي معزوز "يهيمن في هذه الأفلام نوع من الثنائية الأخلاقية بين الإنسان الطيب والشرير، بين الغني والفقير. والسمة الغالبة في مثل هذه الأفلام هي الانتقال من وهم إلى وهم، وإخفاء وإضمار مسببات تعاسة وشقاء البشر وعدم إفشاء سوى النزر اليسير منها، مثل النظام الرأسمالي وسلطة المال، وغير ذلك. في سينما هوليوود وأفلامها ملامسة سطحية لأعوص المشكلات الاجتماعية والثقافية".

العنف بدلاً من الحكاية

حققت أفلام سيلفستر ستالون وأرلوند وتوم كروز وجون ويك وجورج وشنطن عائدات كبيرة في تاريخ السينما، بل إن نسبة العنف المتضمنة داخل هذه الأفلام على اختلاف أنواعها ومنطلقات قصصها وحكاياتها نقلت السينما الأميركية من ناحية شباك التذاكر إلى تحقيق إيرادات تقدر بالمليارات.

في "رامبو" نرى مع سيلفستر ستالون حكاية جندي أميركي عائد من حرب فيتنام ليصاب بخيبة أمل بعدما يجد أن كل الأصدقاء ماتوا وبقي هو وحده يحرس الفراغ. يأخذنا المخرج بحميمية في المشاهد الأولى إلى تأثير الحرب في شخصية الجندي جون، قبل أن يشتبك في العنف بسبب سوء فهم مع شرطي في المدينة.

وفق هذه الشرارة البصرية الأولى سنسافر عبر خمسة أجزاء ممتعة في تاريخ العنف. أجزاء بسطت سوسيولوجيا الحرب وتوجت أميركا بمثابة سبايدرمان منقذ الشعوب والحضارات. فالأجزاء الثلاثة الأولى موغلة في العنف لدرجة تنعدم فيها الحكاية وتصبح عمليات القتل والتهديد والإنقاذ والخيانة والتهديد عبارة عن مؤثرات بصرية للفيلم أو مفاهيم صغيرة يحجبها العنف. في هذه الأفلام نرى أشلاء الأجساد تتطاير في الفيلم، أكثر مما يعتني المخرج بحكاية الحرب في علاقتها بشخصية الجندي.

ثمة حوارات مقنعة حول الحرب بين رامبو (ستالون) وشخصية الممثل ريتشارد دونالد كرينا. إلا أن هذه اللحظات الإنسانية القوية التي تضمر رسائل سياسية عن عبثية الحرب سرعان ما تختفي عن ذهنية المشاهد أمام هول الدم.

يقول الكاتب محمد جابر "حتى منتصف تسعينيات القرن الـ20 تقريباً، كان الممثل سيلفستر ستالون نجم أفلام حركة جماهيرية ناجحة. مع تغير المزاج الجماهيري، وكبره هو نفسه في السن، بدأت مرحلة أفول مر بها أبناء جيله جميعهم، الأبطال مفتولي العضلات، لكن ستالون مختلف ومغاير، إذ قرر عدم الاستسلام. منذ عام 2006 بدأ ما يمكن اعتباره مشروعاً يتعلق بالنبش في الماضي، وإعادة أفلامه وأدواره القديمة الناجحة إلى الضوء، بتحقيق أجزاء جديدة منها، كما حصل مع "روكي"، وسلسلة The Expendables، التي أخرجها، جامعاً فيها أبطال الـ"أكشن" ونجومه القدماء، في أفلام مليئة برائحة ثمانينيات القرن الماضي. حصل هذا مع "رامبو" أيضاً، الذي ظهر مجدداً على الشاشة الكبيرة عام 2008، في جزء رابع، قبل إنجازه عام 2019 جزءاً خامساً منه، يفترض به أن يكون الأخير".

على مدار سنوات، ظلت سلسلة "رامبو" أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ السينما الهوليوودية. يعتبر بعض النقاد أن السبب يكمن في أداء ممثل يجيد الأداء ويحاول عبر جسده (عضلاته) أن يقيم قاطرة ينقل عبرها المشاهد إلى فضاءات مختلفة وعوالم بعيدة من واقعه.

إن ما يميز أفلام "رامبو" أنها لا تقدمه كبطل حرب، ولا بطل أميركا الخارق المنقذ للناس من بشاعة الحرب والتسلط والضلال، بل كثيراً ما عمل المخرج على تقديم حكاية بصرية عميقة تظهر الشخصية في كل جزء مدى هشاشة الجندي أمام هول الحرب. صور توضح تصدعات جسده وارتجاج نفسيته مما يفعله تجاه الجنون الأفغان.

إنها سردية سينمائية صادقة أكدت على مدار سنوات أنه لا أحد يفوز في الحرب. لا الأنظمة ولا الجماعات التي تحركها دوافع إثنية أو دينية أو إمبريالية، لأن الكل خاسر في الحرب. في الأجزاء الأخيرة، يظهر لنا "رامبو" وقد استبد به الليل، فيعتزم في نهاية الجزء الرابع للعودة إلى بيته الريفي عله يجد بعضاً من الراحة والسكينة بعد سنوات من الحرب.

العنف ملح الحكاية

يختلف فيلم "جون ويك" للمخرج تشاد ستالسكي وبطولة النجم الممثل كيانو ريفز بأجزائه الأربعة عن سلسلة أفلام "رامبو". الفيلمان يشتركان في الاستطراد الأعمى في العنف، على رغم أنه صوره مبررة، وغالباً ما يأتي كدفاع عن النفس أو يستعرض بشكل خفي ثنائية الخير والشر، إلا أن الاختلاف الجوهري كامن بدرجة أولى في مفهوم الحكاية.

ففيلم "جون ويك" سعى فيه المخرج على تطوير الحكاية، أي العمل السينمائي يسبقه تفكير عميق على مستوى الكتابة قبل الحركة، لأن شخصية "جون ويك" تتطور درامياً من جزء إلى آخر. الشخصيات بقدر ما تكون ثابتة، فإنها تتحول بحسب قوة مفهوم الحدث السينمائي. يدخل المخرج شخصيات ويتركها تتعاضد مع نسقية الحكاية. يلجأ صاحب الفيلم إلى شلال متدفق من الحكايات الذي يجعل المشاهد يكاد يفقد خطية الحكاية وبوصلتها البصرية. مفهوم التشويق يبقى مغيباً، لأنه لا مجال للتفكير أمام أهوال القتل والتعذيب.

يقول بدر العقباني "يسير الفيلم كلعبة فيديو، الكاميرا تستقر على كتف البطل، وكل تتابع أكشن أو حركة سريعة يمثل مرحلة من هذه اللعبة التي يقاتل في نهايتها الشرير الأعتى وينتصر عليه.

يتنقل جون ويك من نيويورك إلى باريس وأوساكا وبرلين وكازابلانكا. عالم مباح أمام القاتل الأميركي ذي الأصول البيلاروسية. لا يهدر الفيلم دقيقة واحدة من وقته ليسحب المشاهد إلى عالم الأساطير أو متاهات عقل القاتل، أو حتى القواعد المعقدة لهذا العالم الغامض. الخلفية هنا مصممة فقط لتتسع لمهارات جون ويك القتالية وتقنيات الكوريغرافيا التي يتقنها.

إن الجسد في الفيلم يصبح عبارة عن مختبر بصري لتكثيف الصورة، لكن ما يزيد الفيلم جمالاً وعشقاً وطلباً من المشاهدين في العالم، بعد نجاح الأجزاء الثلاثة الأولى في مختلف شاشات العالم، هو الطريقة التي يصور لنا بها المخرج عذابات جون ويك بعد فقدان زوجته. يتحول الألم هنا إلى طاقة لا تنتهي في الانتقام، ويعتبر عديد من النقاد أن أداء كيانو في هذه السلسلة كان أفضل من ماتريكس، على رغم أن الممثل يجيد حقاً أداء أفلاك الأكشن والحركة، لكن ثمة اختلافاً كبيراً في شخصيته، الذي يجعله يغوص في عمق شخصياته، عاملاً في كل فيلم على تقديم الأفضل داخل السينما الأميركية.