وقدمت السينما المصرية بين قضبان السجون عشرات الأعمال التي لم تخل من الرومانسية والتشويق والكوميديا والمأساة أيضاً، حيث السجن النفسي والاجتماعي لا يقل قسوة عن حياة الزنازين. وهذا التعدد في العواطف التي تثيرها تجربة السجن في نفوس أصحابها، ومن ثم متابعيها جعلها مادة مفضلة لدى مغامري السينما، وجعل غالبية هذه التجارب الجادة منها والهزلية ذات مكانة مختلفة لدى المشاهدين، الذين يتلقفون الإنتاجات التي تستعرض هذه الأجواء وتأثيراتها، بغض النظر عن طريقة التناول سواء أكانت تسجيلية أم روائية قصيرة أو طويلة، أم حتى توثيقية بحتة.
وأخيراً عرض الفيلم الوثائقي الطويل "أبو زعبل 89" ضمن وقائع الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وسط حفاوة نقدية وإقبال ملحوظ، حاصداً ثلاث جوائز بينها جائزة أسبوع النقاد، إذ يسرد مخرجه تجربة شديدة الخصوصية تتعلق برحلته الذاتية، لفهم ما جرى بعد أن سيق أبوه إلى السجن بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي، بالتوازي مع رحلته مع والدته لزيارة الأب، الذي لم يعد كما كان أبداً، ليضيف العمل إلى قائمة أفلام السجون التي أبدعتها السينما في مصر تجربة جديدة أكثر حدة وتحديقاً، في واقع قريب نسبياً لا يزال حاضراً في الأذهان.
تجربة خاصة
اختار المخرج المصري بسام مرتضى اسماً واضحاً ومباشراً يتعلق بسجن يعلم المصريون جيداً مدى شقاء من يدخله "أبو زعبل"، الذي يثير لفظه الانقباض في الروح، لكن التجربة مع ذلك كانت أشمل وأعم بكثير وتعرض من دون مواربة وبكثير من الحساسية التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت منذ عام 1989، إذ دخل السياسي محمود مرتضى السجن بعد تضامنه مع عمال مصانع الحديد والصلب المحتجين، وجرى توجيه اتهامات عدة إليه، بينها السعي إلى قلب نظام الحكم والاشتراك في تنظيم شيوعي يحرض على الفوضى والإضرابات، وهي تهم كانت شائعة إبان عصر الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وتستخدم عادة ضد النشطاء السياسيين.
شخصيات الفيلم الأساسية، وهي الأب والابن والأم، تحكي سرديتها عن الأحداث كل من وجهة نظره، ويضاف إليهم الفنان سيد رجب الذي ذاق أيضاً مرارة السجن السياسي، في حين تبدو المشاعر شديدة التعقيد حينما يتماس العام مع الخاص، وتتداخل نبرة اللوم الموجهة إلى أب قرر التخلي ومغادرة البلاد بعد خروجه من الحبس، نظراً إلى شعوره بالهزيمة على أكثر من مستوى، مع مفارقة أن الابن أيضاً لم يعد يرى بداً من المغادرة. لكن شيئاً ما لا يزال يمنعه، إذ لم يعد السجن فقط هو الزنزانة محكمة القضبان، إنما تعداها ليظهر بتعريفات عديدة في الفضاء المحيط.
الفيلم ينساب بسلاسة من دون اصطدامات كان يمكن أن تعرقل مساره رقابياً في الأقل، مثلما حدث في عدة أعمال أخيراً. يتفق الناقد أندرو محسن مع "حساسية هذه النوعية من الأفلام"، مشيداً بجرأة صناع "أبو زعبل 89"، ومنوهاً إلى صعوبة تقديم عمل توثيقي أرشيفي عن موضوع كهذا، نظراً إلى "ندرة المواد المتوفرة حول هذه الأحداث التي تجري عادة في أماكن ممنوع فيها التصوير".
ويتابع الناقد السينمائي، "فيلم أبو زعبل له خصوصية لأنه يهتم بتوثيق حقبة زمنية من منظور مجموعة معينة ومحددة للغاية، بكل ما فيها من حساسيات تتعلق بالتعامل مع المجال العام، فالاعتقال كان سياسياً بالأساس، وهو ما انعكس على صورة وطبيعة الفيلم، الذي أصر مبدعوه أن يخرج للنور برؤيتهم هم على رغم العوائق الكثيرة".
وعلى مدار عقود أتاحت السينما المصرية تجارب شتى في ما يتعلق بعالم السجون، وقدمت قصص جانباً كبيراً منها وواجهت أزمات رقابية مع النظام السياسي حينها ومنعتها السلطات، إذ اشتركت أنظمة عدة في رؤيتها لهذه الحكايات على أنها تمثل تشويهاً للحقائق وتستعرض واقعاً مفتعلاً ومبالغاً فيه، لا سيما في ما يتعلق بمشاهد التعذيب والترهيب بين جدران الزنازين.
ويعد فيلم "الكرنك"، أحد أشهر الأفلام التي تناولت تعذيب المعتقلين السياسيين في السجون، إذ يسرد حياة مجموعة الأصدقاء خلال ستينيات القرن الماضي يترددون على مقهى "الكرنك"، الذي عرف عنه أنه مقصد نشطاء يرفضون بعض التوجهات السياسية، واستعرض العمل مجموعة من المشاهد القاسية للابتزاز والاعتداءات والتعذيب بين جدران المعتقل، إذ كان الهدف سحق المتهمين نفسياً قبل تعذيبهم بدنياً، وواجه العمل الذي كتبه نجيب محفوظ وممدوح الليثي وأخرجه علي بدرخان تهديداً بمنع عرضه عام 1975، لكن الرئيس الراحل أنور السادات تدخل لإنقاذه.
بعدها بأربع سنوات، قدم المخرج حسين كمال فيلمه الشهير "إحنا بتوع الأتوبيس"، الذي دارت أحداثه في الستينيات أيضاً، إذ يجد البطلان نفسيهما وقد جرى ترحيلهما إلى معتقل سياسي، ويتعرضان للتعذيب مع مجموعة من الناشطين بالمصادفة، وذلك بعد أن دخلا في مشاجرة مع محصل أجرة الأتوبيس، إذ كان يمكن أن ينتهي الموقف ببساطة، لكن الفيلم حاول كشف عما يمكن أن يتعرض له الأبرياء لمجرد الحظ العاثر، والعمل بطولته عادل إمام وعبدالمنعم مدبولي.
أما فيلم "البريء" 1986 إخراج عاطف الطيب وقصة وحيد حامد وبطولة أحمد زكي وممدوح عبدالعليم ومحمود عبدالعزيز، إذ ظل ممنوعاً من العرض مدة تقترب من 20 عاماً، كونه تناول موضوعاً سياسياً شائكاً للغاية، ودارت قصته حول خبايا تعذيب ضباط المعتقلات السياسية للمساجين المتهمين بمعارضة النظام، ويجد البطل نفسه في موقف إنساني شديد الارتباك بين القيم التي يؤمن بها وبين ما يلقن له.
كذلك كان السجن السياسي هو محور فيلم "التحويلة" 1996، إذ يجد مواطناً بريئاً نفسه في المعتقل ويتعرض للتعذيب بعد أن زج به في قائمة من المطلوبين أمنياً لنشاطهم السياسي، وذلك بعد أن هرب أحدهم، فيسوى الأمر بتلفيق التهمة للبطل الذي يحاول من دون جدوى إثبات أنه ضحية للفساد.
تيمات متكررة
اللافت أنه حتى حينما تبتعد الدراما عن السياسة، فإن السجن في السينما كان عادة يدور في فلك متشابه متعلق بمنفذ القانون المتسلط والسجين المغلوب على أمره الذي يتعاطف معه الجمهور، وبينها "ليل وقضبان" 1973 و"جعلوني مجرماً" 1945 و"الظالم والمظلوم" 1999 و"أمير الانتقام" 1950.
يرى الناقد الفني إيهاب التركي أنه بعيداً من المستوى الفني لأفلام السينما المصرية التي اتخذت من السجن محوراً لأحداثها، فإن تيمة المسؤول الشرير والسجين المظلوم المضطهد "متكررة للغاية"، معتبراً أن كثيراً من هذه الأفلام "جيد للغاية، لكنها كانت تتعامل مع السجن كخلفية أحداث بينما يجري تسليط الضوء على شخصيتي الطيب والشرير"، مضيفاً أن الاستثناءات بهذا الصدد "قليلة للغاية".
قد يكون فيلم "كلمة شرف" من بين أبرز هذه الاستثناءات، وهو العمل الذي قام ببطولته فريد شوقي بمشاركة رشدي أباظة وأخرجه حسام الدين مصطفى عام 1973، فحزم وحيادية مأمور السجن لم يمنعه من النظر لروح القانون وتعاطفه مع المسجون الذي يجب أن يخرج في زيارة مصيرية ولأسباب إنسانية بحتة، ويعتبر الفيلم من الأعمال التي ناقشت قضية مهمة تتعلق بحياة السجناء وحقهم في الخروج بصورة استثنائية والعودة مجدداً لقضاء مدتهم، وهو الأمر الذي وضع في الاعتبار بلوائح السجن في ما بعد بناء على هذا التناول المؤثر.
يوميات المساجين
لكن هناك جانب آخر يرى الناقد إيهاب التركي أن السينما المصرية تفتقده إلى حد كبير في ما يتعلق بالأعمال التي تدور أحداثها بين القضبان، وهو يتعلق بيوميات المساجين أنفسهم عن قرب، مشيراً إلى أن هناك تفاصيل ثرية للغاية يغض الطرف عنها والانتصار للعناوين العريضة والواضحة والمباشرة، موضحاً "تستعرض الأفلام العالمية التي تناولت هذه الدراما نسيج الحياة وقوانينها بين المساجين، وتتقرب بشدة من هذا المجتمع الموازي، وهي أمور من النادر أن نجدها في الدراما العربية، وقد يكون مسلسل ’سجن النسا‘ لنيللي كريم وإخراج كاملة أبو ذكري، من أكثر الأعمال التي اقتربت من الحياة اليومية في الزنازين، وهو مأخوذ من عمل أدبي لفتحية العسال، وكذلك ’اللص والكلاب‘ المأخوذ من رواية لنجيب محفوظ".
ويعتقد التركي أن السبب ربما يعود لأسباب متعلقة بجهاز الرقابة الذي يرغب دوماً في أن تكون رسالة العمل "واضحة بلا لبس، وأن تحمل وعظاً وحكمة ما، بالتالي فالعمل على مشروع درامي يتأمل في هذه التفاصيل من دون أحكام مسبقة في هذا الظرف على وجه التحديد سيكون مغامرة صعب تنفيذها".
يتفق كذلك الناقد أندرو محسن مع فكرة ثراء فكرة السجن، مؤكداً أن هناك عدداً من الأعمال التي انتصرت للجانب الإنساني، لكن نظراً إلى أن التجارب ليست كثيرة بما يكفي فهناك متسع من الحكايات التي يمكن سردها سينمائياً، بخاصة أن هذه المساحة مثيرة للتفكير والتأمل في ما يتعلق بمفاهيم متعددة مثل الظلم ومعنى الشعور بالزمن.
ربما يعتبر "حب في الزنزانة" 1983 قصة إبراهيم الموجي وإخراج محمد فاضل من الأعمال المتفردة أيضاً في خطها الرئيس، إذ يحكي بسلاسة عن قصة حب رومانسية بين المسجون صلاح الغرباوي (عادل إمام)، والمسجونة فايزة حسن (سعاد حسني)، ويتابع المشاهد لقطات صامتة ومعبرة توضح معاناة تواصل الحبيبين في لحظات عابرة، وعلى رغم اعتماد العمل على تيمة الظلم والانتقام، إلا أنه قدم لمحات شديدة الإنسانية، مقترباً بين هموم المساجين وحياتهم العاطفية كذلك، وهو طرح نادر في السينما بالمنطقة.
في العام نفسه أيضاً قدم عادل إمام قصة ذات طابع كوميدي اجتماعي بفيلم "الأفوكاتو"، تعرضت لحياة محام داخل السجن، إذ كانت الزنازين أيضاً مساحة مفضلة لدى صناع السينما الكوميدية من خلال أعمال عديدة بينها "30 يوم في السجن" 1966 لفريد شوقي، و"رجل في سجن النساء" 1982 ليونس شلبي، و"اللي بالي بالك" 2003 لمحمد سعد، و"وش إجرام" 2006 لمحمد هنيدي وغيرها.