مخرج سويدي وثق حياة أجيال من عائلة فلسطينية في غزة على مدى أربعة عقود؟

YNP ـ تربط المخرج السويدي بير-أوكه (بيو)هولمكفيست علاقة خاصة بغزة، امتدت على مدى نحو أربعة عقود ابتدأت في ثمانينيات القرن الماضي عندما قدم أحد الأفلام الوثائقية المبكرة النادرة التي قدمت صورة صادقة للحياة اليومية لناسها، ثم عاد إليها غير مرة وقدم أفلاما متعددة عنها، كما واصل صلاته المميزة بأهلها وظل مراقبا ومتابعا لتطورات الأوضاع فيها وناشطا في التعبير عن هموم أهلها ومعاناتهم.

ولم تعد علاقته بالمدينة مجرد علاقة مخرج سينمائي بمادة فيلمه، بل استحالت إلى علاقة إنسانية واصل خلالها متابعة مصائر الشخصيات في العائلة التي صور فيلمه عنها، وعقد علاقة صداقة مع بعض أفرادها الذين ظل يتواصل معهم ويتابع تفاصيل حياتهم، سواء من بقوا منهم في غزة أو من هاجروا وانتشروا في أرجاء المعمورة. وهو في خلاصة رصده لهم يقدم ملحمة عن حياة أجيال من عائلة فلسطينية في توثيق نادر لعينة من الحياة الفلسطينية على مدى عقود.

لقد قدم هولمكفيست نحو ثمانية أفلام عن القضية الفلسطينية، كان لغزة النصيب الأكبر بينها، إذ تناولها في أفلام "غيتو غزة" 1985، "أسد من غزة" 1996، "كلمة وحجر" 2000، "فرويد الشاب في غزة" 2008، و "غزتي" 2014.

ولعل متابعة هذه الأفلام الممتدة على مسافة نحو أربعة عقود تقدم صورة واضحة لتطور الأوضاع في غزة عندما كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفي المراحل اللاحقة التي أعقبت اتفاقات أوسلو والانسحاب الإسرائيلي، ومن ثم الانتخابات الفلسطينية وسيطرة حركة حماس على القطاع، والتحولات المختلفة التي مرت بها خلال الحروب المتعددة التي شهدها القطاع.

"غيتو غزة"

يعد فيلم "غيتو غزة" 1985، الذي أخرجه هولمكفيست برفقة بيار بيوركلوند وجون ماندل، فيلما رائدا في تسليط الضوء على حياة الناس اليومية في غزة، بعد أن ظلت صورة غزة في العقود السابقة مقتصرة على ما تقدمه الأفلام المنتجة من وكالات الإغاثة الدولية عن حياة الناس هناك، وهي أفلام تنتج للفت الانتباه لتقديم التبرعات والدعم لتلبية احتياجاتهم الإنسانية، بالإضافة إلى عدد محدود جدا من الأفلام الوثائقية.

لقد وضع هولمكفيست عنوانا ثانويا لفيلمه هو "بورترية لعائلة فلسطينية". وعلى هامش معايشته لعائلة مصطفى الحمداني المهجرة إلى مخيم جباليا في هذا الفيلم، نجح المخرج في رصد كل ما حولها من أحداث، في المخيم، وفي الفضاء الأوسع في قطاع غزة، وعموم ملف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ولم يتوقف عند ذلك بل جعل من متابعة مصائر أبناء هذه العائلة في عقود أخرى مادة أفلامه اللاحقة.

يفتتح هولمكفيست فيلمه بحديث لبنت العائلة الصغيرة رائدة عن أهمية البيت/الوطن للإنسان ورحلة يقودها والد الأم "أبو عادل" إلى قريتهم القديمة "ديمرا" التي هجروا منها، ليحدث أحفاده عنها ويستذكر مع والده تفاصيلها وموقع كل عوائل القرية ومعالمها وأشجارها شجرة تلو أخرى، قبل أن يأتي إليهم المستوطنون الإسرائيليون ويطلبون منهم مغادرة المكان.

ثم ينتقل المخرج إلى رصد الحياة اليومية للعائلة منذ استيقاظ الأطفال في الصباح الباكر وفطورهم قبيل ذهابهم إلى مدارسهم، ويتقاطع هذا الرصد مع أحداث المخيم الأخرى؛ كحظر التجوال فيه، وانتشار جنود إسرائيليين في داخله، ويحاول محاورة بعضهم.

ويحرص المخرج على أن يوازن أحداثه تلك في مونتاج متوازي مع ما يحدث في الجانب الإسرائيلي، فمقابل مشهد المدرسة في جباليا نرى مشهد المدرسة في مستوطنة إسرائيلية تبنى في مكان قريب في قطاع غزة.

كما يزاوج بين سرد الشخصيات لذكرياتها مع مشاهد وثائقية عن حرب 1948 أو 1967، أو أحداث أخرى في المنطقة.

كما ينتقل لرصد الضحايا من الأطفال القصر في المخيم، ويركز على قصة طفل قتل بحادث إطلاق جيش الاحتلال الإسرائيلي النار خلال اضطرابات في المخيم، وحديث أمه وفشل أبيه في إقناع المحكمة الإسرائيلية بمحاكمة الجندي المسؤول عن مقتله على الرغم من تكليفه لمحام إسرائيلي بالترافع عنه.

ورغم كل تلك الانتقالات تظل حكاية عائلة الحمداني في المخيم هي الحكاية الإطارية أو الخيط السردي الأساسي الذي تتفرع منه الحكايات الأخرى، فنتابع عمل الجد أبو عادل كأجير في تل أبيب بعد هدم دكانه، وتفاصيل الحياة اليومية للأطفال في المدرسة، وخوف الأم من الولادة بعد موت أمها إثر نزيف خلال حالة ولادة وتأخر نقلها إلى المستشفى، فضلا عن رصد طقوس الحياة والموت للعائلة عبر مشاهد مأتم الجدة أو ولادة ابن جديد للعائلة.

ولا يتخذ السرد في الفيلم مسارا خطيا بل يتنقل عبر تفرعات سردية تنتظم في مسار دائري، إذ يعيدنا مشهد النهاية إلى لحظة البداية ومحاولة العائلة زيارة قريتها التي هجرت منها وباتت بيد المحتلين الصهاينة.

"فرويد الشاب في غزة"

في هذا الفيلم يعود هولمكفيست مع زوجته، سوزان خاردليان، مخرجة مشاركة هذه المرة، بعد مرور نحو أكثر من عقدين على فيلمه السابق إلى عائلة الحمداني ذاتها في مخيم جباليا؛ ولكن هذه المرة مع جيل جديد من العائلة، ممن كانوا أطفالا عند تصوير فيلمه السابق، أو ولدوا بعد تصويره، فيختار "عائد" الطفل الذي كبر وأصبح يعمل أخصائيا نفسيا في المخيم ذاته، ليقوده (ولو على استحياء) وسط أزقة المخيم الضيقة إلى منجم ألم يتمثل في التأثيرات النفسية التي تركتها الحروب والموت والدمار والأوضاع المضطربة في نفوس البشر.

فيصور الفيلم، الذي صور على مدى سنتين بين 2006 و2008، لقاءات الطبيب الشاب عائد مع مرضاه في عيادته البسيطة في المخيم أو في بيوتهم مع عوائلهم. وهي لقاءات في الحقيقة تفتقر إلى الكثير من متطلبات عمل الاخصائي النفسي، وتجري بشكل جماعي أحيانا وكأنها صممت لتقدم أمام الكاميرا لتقديم صورة عن آليه عمل عائد، ونماذج من مرضاه متفق معهم.

وهنا نجد أن المخرج يلجأ إلى الأسلوب السردي ذاته: الحكاية الإطارية، التي تتمثل في حياة عائد وسط عائلته، حيث تحاول والدته إقناعه بالزواج، وعلاقته بأخته ووالده ووالدته وحياته وسط عائلته الكبيرة، فضلا عن تأثير ما يجري في الخارج عليه؛

نحى هذا الفيلم إلى التركيز على قضية محددة هي قصة الطبيب النفسي ومرضاه، وربما كانت ثمة دوافع إنتاجية وراء هذا التوجه، كما توضح خاردليان التي اشتركت في إخراجه في مقابلة معها بقولها "واجهت الكثير من الرفض لأنني أعيش في مكان تسود فيه المواقف المضادة لفلسطين. وأخذت موجة ضد إنتاج الفيلم. ففكرت بأنه ينبغي أن أقدم الموضوع بأسلوب وشكل يختلف عن غيره. وولدت فكرة تقديم المجتمع الفلسطيني دون خوض في المسائل السياسية وتسليط الضوء عليها، رغم أن المواضيع السياسية موجودة دائماً".

لقد ترك لنا هولمكفيست في مجموع أفلامه التي أنجزها عن غزة توثيقا رائعا لحياة عائلة فلسطينية بأجيالها المختلفة على مساحة زمنية واسعة، ورصدا للحياة في مخيماتها وتحولاتها على مدى نحو أربعة عقود، فصنع ما يشبه الملحمة ولكن من تفاصيل يومية وعادية ومباشرة من حيوات الناس ومعاناتهم وآمالهم. لاسيما عائلة الحمداني التي تابع كل أجيالها، من الأب مصطفى الحمداني وزوجته، وجيل والدته، ووالد زوجته "أبو عادل"، ووالده، إلى جيل الأطفال الذين كبروا وباتت قصصهم مادة أفلامه الجديدة، كما هي الحال مع عائد الذي كان طفلا عند إنتاج فيلمه الأول، ثم بات محور فيلمه "فرويد الشاب في غزة"، بعد أن تخرج من الجامعة وعمل أخصائيا نفسيا في العقد الثالث من عمره.

لقد تحولت علاقة هولكمفيست مع أبطال فيلمه إلى علاقة إنسانية عائلية ظل متابعا فيها حياتهم وتنقلاتهم ومصائرهم المختلفة، وقد كتب يوما على صفحته على منصات التواصل متحدثا عن مصائرهم اليوم بين من خرج من غزة ومن بقي فيها.