اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين .. منارة الوحدة اليمنية

YNP - قبل خمسين سنة من الآن، قرر كوكبة من الأدباء والكتاب في جنوب اليمن وشماله، إنشاء كيان نقابي أدبي موحّد، في وقت كان فيه اليمن الكبير تحت حكم دولتين مستقلّتين، ناهيك عن توتّر علاقاتهما السياسية وتباين رؤيتهما في الحكم.

و وُلد "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين"، كأول مؤسسة رسمية موحدة في ظل نظامَيْ حكم شطريَّين. ولم يكن من قبيل الصدفة أو مجرد حسن الحظ، أن قَبِل كلا النظامين بممارسة هذا الكيان الموحّد لأنشطته الأدبية والثقافية، متجاوزًا حالة التوتّر السياسي وخلافات قادة الدولتين آنذاك. ذلك أن صدق الدافع الوطني والإنساني لدى مؤسسيه، كان كفيلاً بتبديد ارتياب السياسيين في كلا الجانبين منذ البداية. وإلى ذلك، لم تكتفِ تلك الكوكبة من الأدباء والكتاب والمفكّرين بالرمزية الوحدوية التي مثّلها تأسيس الاتحاد رسمياً وإشهاره، بل أطلقوا العنان للحلم الذي ظلّ كنجم في فجر، يدنو ويبتعد طيلة 20 سنة، حتى تحققت الوحدة في 22 مايو/ أيار 1990.

 حينها كان حلم الوحدة مسنودًا بإرادة شعبية، وبثورتين توأمين ساندت إحداهما الأخرى في كل مراحلهما، وكان هناك نخبة ثقافية وأدبية التقطت الحلم بمسؤولية عالية وعبّرت عنه بنزاهة ودأب وصبر وقوّة احتمال، حتى تحقق. وما لم يكن ليخطر على بال، هو أن أول مؤسسة وحدوية، المؤسسة التي ظلّت ترعى حلم الوحدة وتحميه حتى شبّ ونضج وتحقق سلميًا، ستكون في طليعة ضحايا ثقافة الحرب، التي أصرّ معتنقوها على خوضها للحصول على وحدة أخرى "معمّدة بالدم".

  ما حدث لهذا الكيان الوحدويّ السبّاق بعد أن تحققت الوحدة، ليس بعيدًا عمّا حدث للوطن الكبير الذي أوصلته ثقافة الحرب إلى الجحيم الذي يعيشه كل أبنائه اليوم، في الجنوب والشمال؛ الانقسام السياسي والانفصال الوجداني قبل الجغرافي، والنفور من مجرّد ذكر الوحدة أو اللامبالاة إزاءها، هي تعبيرات عن الجنايات المستمرّة بحق إرادة السلم والتعايش، وعن خيبة الأمل التي شعر ويشعر بها كل وجدان وحدوي صادق، والسبب الرئيس في ذلك يفصح عن نفسه؛ الموت من أجل الوحدة بدلًا من الحياة لأجلها. لكن، لن تموت أحلام الشعوب .

يقول المفكر اليمني  عبدالباري طاهر  " كانت سبعيناتُ القرن الماضي بداية تفتُّح وازدهار في المنطقة العربية كلها؛ فقد شهدت تزايد المقاومة الوطنية والقومية ردًّا على هزيمة 67، وأنجز الشطر الجنوبي تحقيق الاستقلال، وبناء سلطة ذات نزوع قومي يساري، أما الشمال فقد تمكنت صنعاء عبر تحالف الجيش والمقاومة الشعبية من كسر الحصار الذي استمرّ سبعين يوماً ".

ويضيف "  تأسست الأحزاب السياسية «السرية»، ونشط التواصل بين النخب السياسية والثقافية والأدبية؛ لتشكيل المنظمات المهنية النقابية والإبداعية، وصدرت المجلات الثقافية والأدبية: «الحكمة» 1971 برئاسة الجاوي، و«الكلمة» 1971، برئاسة محمد عبد الجبار سلام، و«الإكليل» عام 1980 برئاسة محمود الصغيري، و«اليمن الجديد» 1971 التابعة لوزارة الثقافة صنعاء، ورأس تحريرها الشاعر والناقد الكبير عبد الودود سيف، و«الجيش» التابعة للتوجيه المعنوي، ورأس تحريرها شاعر العرب الكبير عبدالله البردوني، ومجلة «التعاون» 1979، ورأس تحريرها الأستاذ حمود العودي، و«الرسالة» 1968، و«الوحدة» 1969، وفي الجنوب صدرت «الثقافة الجديدة» التابعة لوزارة الثقافة عام 1970 إضافةً إلى مجلات أخرى، كما برزت الملاحق الثقافية في بعض الصحف اليمنية. وعربياً طُرحت قضية المنابر في مصر، وازدهرت المجلات الثقافية والأدبية في العراق وسوريا ولبنان والكويت والمغرب العربي، وبدأ التغيير في الخليج العربي في مسار الاستقلال والتحديث " .

وتابع "  كان الصراع والتنافس بين النظامين الشطريين في الشمال والجنوب مريراً، وكانت الوحدة نقطة الخلاف، ومركز الصراع والادّعاء. وفي حين كان التشطير واقعاً، كان الرهان على تحقيق الوحدة بالقوة هو التفكير السائد لدى النظامين كلٌّ بطريقته الخاصة، وكانت الفصائل السياسية موزعة الولاء بين حكومتيْ الشطرين " .

وكتب في مقال له "  انتهج اتحادُ الأدباء والكتّاب -في ظل مأزق النظامين وصراعاتهما حد المواجهة- نهجاً مستقلاً. لم يأت تشكيل الاتحاد من فراغ؛ فمنذ البدء من دعوات الإصلاح والتجديد ارتبط المثقفون والأدباء والكتاب بهذه الدعوة، بل كانوا الرواد والقادة؛ فقد كان جُلُّ مؤسسي حزب الأحرار 1944 (الحركة الوطنية الأم في الشمال) ورابطة أبناء الجنوب العربي1950- من المفكرين والأدباء والكتاب كالزبيري والنعمان والفسيل والأرياني وشيخان الحبشي وباذيب وقحطان الشعبي " .

ويضيف " كان عمر عبدالله الجاوي هو الضمير البارز منذ بدء الدعوة إلى تشكيل اللجنة التحضيرية. اللجنة التحضيرية وقيادة مؤتمر الاتحاد وأمانته العامة، واللجنة التنفيذية عبرت عن معنى وحدة يمنية حقيقية تمثَّل فيها الشمال والجنوب، كما جُسِّدت الوحدة الوطنية والمجتمعية بوجود الاتجاهات الأدبية والفكرية والسياسية ومن مختلف الشرائح والفئات؛ وهو ما قوّى مصداقية الاتحاد، وفرض على السلطات الشطرية القبول أو على الأقل عدم الممانعة بسبب تجريم الحزبية في الشمال، وتفرّد الاتجاه الواحد في الجنوب " .

موضحا بالقول " اتخذت صيغة الاتحاد منحىً يمزج بين النقابي والإبداعي والسياسي، ويضمّ مختلف ألوان الإبداع الأدبي والثقافي: الشعر والسرد، واتسع الاتحاد بنفس القدر بانفتاح على الاتجاهات السياسية والحزبية المحظورة هنا وهناك؛ فالجمعيات العمومية للاتحاد وفروعه في مختلف المناطق كانت تضمّ الاتجاهات الأدبية والفكرية والسياسية المختلفة " .

مشيرا الى  أن الجمعيات العمومية للصّحفيين والأدباء كانت متداخلة؛ فالعديد من الأدباء هم صحافيون، والعكس صحيح؛ فعبدالله البردوني رئيس الاتحاد مذيع قديم، ورئيس تحرير مجلة «الجيش»، وهو كاتب مهمّ في صحيفة السادس والعشرين من سبتمبر، وعمر عبدالله الجاوي صحفي متخصص، ورئيس صحيفة «الثورة»، في صنعاء عام 1963، كما أن أعضاء اللجنة التنفيذية والأمانة العامة البعض منهم صحفيون.

 و كان الاتحاد معارضاً لنهج التشطير، وكان ينوس بين العمل الإبداعي الأدبي والفكري، وبين العمل السياسي داعماً للوحدة؛ فقد رفع شعار «تحقيق الوحدة في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة»، ودعا الاتحاد -عبر مجلة «الحكمة» وافتتاحيتها، ومقالات الاتحاد وبيانات ومقررات مؤتمراته وتوصياتها- إلى إطلاق الحريات العامة والديمقراطية وحرية الإبداع والرأي، وقدم الاتحاد الأدبي رؤيته السياسية للوحدة اليمنية، وتبني فتح الحوار للنقاش حول رؤية الأحزاب السياسية والشخصيات العامة لتقديم رؤيتها حول الوحدة اليمنية، ونشرت في كتاب «الوحدة اليمنية».

و بني الاتحاد رؤيته على المبادرة لتحقيق الوحدة السلمية والديمقراطية، وإطلاق الحريات العامة، وتوحيد مؤسسات المجتمع المدني (النقابات، والمنظمات الجماهيرية والإبداعية)، وعندما شُكّلت لجان التوحيد واللجنة الدستورية أصبح عديد الأدباء والمثقفين أعضاءً في هذه اللجان، ووقفوا ضد الانتهاكات القامعة للحريات العامة والديمقراطية في النطاق العربي والعالمي، ونقد مواقف اتحاد الأدباء والكتاب العرب في بعض القضايا، وبالأخص الموقف من الوحدة اليمنية، وعدم الاعتراف في البداية بالاتحاد اليمني، وساند الاتحاد قضايا الحرية والديمقراطية وكفاح الشعوب والأمة العربية، وبالأخص القضية الفلسطينية، كما دافع أعضاؤه عن الأدباء والكتاب والمثقفين بعامة.

 رَصدَ الأديب الناقد والشاعر محمد عبد الوهاب عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد في مقالة له بعنوان «الاتحاد من الوحدة إلى التذرر» رصداً دقيقاً مسيرة الاتحاد والمآل البائس، والواقع أن الوحدة التي دعا إليها الاتحاد وناضل في سبيل تحقيقها عبر السبل السلمية والوسائل الديمقراطية تحققت سلماً وعبر الوسائل الديمقراطية، وعلى مدْماك الدستور الذي كان عمر الجاوي ثاني اثنين في صياغته إلى جانب رفيقه الدكتور عبد الرحمن عبدالله العضو القيادي في الاتحاد. وقد تعرض الدستور منذ البدء للتعديل ثم -وهذا هو الأخطر- أُقصى الاتحاد من المشاركة في البناء الوحدوي، وظل طرفا الوحدة: «المؤتمر الشعبي العام» و»الاشتراكي» محتفظين بسلاحهما، وكل واحد منهما عينه على الآخر، وكان الأقوى قبلياً وعسكرياً في حرب 94 هو المنتصر ضداً على الوطن، والوحدة السلمية والديمقراطية.

خفت أو بهت دور الاتحاد بسبب انتقاده للتقاسم السياسي، والتحاق الكثير من أعضائه وقياداته بأحزابهم وبالأحزاب الجديدة التي تأسست بعد إقرار الدستور التعددية السياسية والحزبية وحرية العمل النقابي.

القوة المضمرة في العملية التوحيدية والرهان عليها أعلنت عن نفسها في حرب 94. لقد طالت الحرب الحياة السياسية والأدبية ومختلف جوانب الحياة، وكان نصيب الاتحاد الأدبي، والمنظمات الجماهيرية والإبداعية، والحريات العامة، وحرية الرأي والتعبير والإبداع- النصيب الأوفر.

ويتعرض اتحاد الأدباء والكتاب أحد الآباء الروحيين للوحدة اليمنية الآن لما يتعرض له الوطن -كل الوطن- من تفكيك ومعاناة، لكن الحياة أقوى من الموت والسلام أبقى من الحرب؛ فالحرب -رغم قسوتها- لا تستطيع إبادة الشعب، أو إخماد إبداعه وجذّ عطائه؛ فهناك المئات والآلاف من المبدعات والمبدعين ينحتون في الصخر، ويضيئون في الظلام، ويبدعون ألواناً أكثر جِدة وحداثة وعصرنة تتحدى الموت، وتقهر الحرب.