بن سلمان يضع اللمسات الأخيرة للاستغناء عن "خادم الحرمين الشريفين"

YNP  /  إبراهيم القانص -

"خادم الحرمين الشريفين".. صفة استخدمها سلاطين وملوك الدول الإسلامية قبل قرون من الزمن، وذيلوا بها أسماءهم وألقابهم، ليس تشرُّفاً بخدمة الحرمين الشريفين ولا اعترافاً بقدسيتهما الكبيرة، بل كانوا يستخدمونها كدلالة على بسط نفوذهم وتمدده في العالم الإسلامي، وكان أول من وظف هذه الصفة المماليك ثم الأيوبيون ومن بعدهم العثمانيون، وفي القرن العشرين وبعد الاختراع البريطاني الذي سُمّي "الدولة السعودية"،

وكانت بريطانيا حينها على مشارف الأفول كأكبر دولة استعمارية، فحرصت على وضع وكلاء لها في غالبية الأقطار التي كانت تحتلها، وكان أكبر وكلائها في الشرق الأوسط آل سعود، الذين نصّبتهم ملوكاً على ذلك الجزء من جزيرة العرب، حيث تقع أقدس المقدسات الإسلامية.

 

كانت الرمزية الدينية لمن يحكم تلك البقعة المباركة الوسيلة الأكثر ضماناً لبسط النفوذ، والتأثير في المحيط العربي بأكمله، ومن هناك جاءت أول مباركة وتأييد للقرار البريطاني المشؤوم الذي سلب فلسطين بمسجدها الأقصى الذي يُعد ثالث أهم المقدسات الإسلامية- ثالث الحرمين الشريفين- حيث أعلن الملك السعودي حينها تأييده لقرار تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، ومنذ ذلك الحين والسعودية تلعب دوراً محورياً في منح اليهود ما هو أكبر من احتلال فلسطين، إذ أن المشروع الصهيوني كان قد انطلق للسيطرة على المنطقة بأكملها، خصوصاً بعد ما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القطب الأقوى المسيطر على العالم، ولأن توجهات حكامها وإداراتها المتعاقبة كانت ولا تزال ذات ميول صهيونية وتجعل دعم الصهيونية العالمية أولى أولوياتها.

 

كان الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز هو أول من ألحق باسمه ولقبه الملكي صفة "خادم الحرمين الشريفين"، مضيفاً بذلك سياجاً منيعاً وواجهةً تجعلهم فوق مستوى الاتهام بما يقدمونه لليهود من خدمات جليلة تقوي نفوذهم في المنطقة، وتقربهم من تحقيق حلمهم الكبير في السيطرة عليها، وتعطيل الدور الحقيقي الذي كان يفترض أن يحققه الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، كأكبر تجمع عالمي للمسلمين، يوحد كلمتهم وينتصر لدينهم ويكفّ عنهم مؤامرات الأعداء، خصوصاً اليهود. 

 

لم يدّخر حكام آل سعود جهداً في دعم وتقوية جذور المشروع الأمريكي الإسرائيلي للسيطرة على المنطقة، وظلوا يعملون بإخلاص لهذا المشروع طيلة العقود الماضية، محاطين بهالة من القداسة الدينية المكتسبة من قيامهم على المشاعر المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومختبئين خلف تلك القداسة المزيفة مقدّمين أنفسهم حماةً للدين والمقدسات، حتى أن أحداً لم يكن يجرؤ على اتهامهم بخدمة المشروع الأمريكي الإسرائيلي والتآمر على الدين، بل كان الكثيرون يحسدونهم على شرف خدمة المشاعر المقدسة، غير مدركين أن أولئك الحكام حرفوها عن مسارها الصحيح الذي كان ضماناً مؤكداً لقوة الأمة الإسلامية وعزتها، حيث حولوها إلى بؤر لصناعة التطرف والتشدد الديني برعاية "خُدام الحرمين الشريفين"، وكان ذلك من صميم خطط المشروع الإسرائيلي، كون نجاحه وتوسعه مشروطاً بتمزيق وإضعاف روابط المجتمعات الإسلامية، بإبعادها عن قيم دينها الناظمة لكل ما من شأنه عزتها وقوتها، وهو ما حدث بالفعل حين أنتجت السعودية صورة مشوهة للدين بما فرّخه مشائخها وفقهاء دواوينها الملكية، من تنظيمات إرهابية مثل داعش والقاعدة والتي انطلقت من الفكر الوهابي السعودي، الذي كان يدير الحرم المكي، مقدماً ديناً آخر مشوهاً، وأبعد ما يكون عن الدين الحقيقي الذي يحمل السلام والكرامة للإنسانية، من موقع القوة والعزة والسيادة.

 

ويرى مراقبون أن مرحلة التمترس والاختباء خلف الرمزية الدينية وشعارات خدمة الحرمين الشريفين، ربما تكون قد شارفت على نهايتها، فقد أوصل حكام وملوك السعودية المشروع الأمريكي الإسرائيلي إلى مراحله الأخيرة، وهو إنجاز ما كان له أن يتم لولا دأبهم المتواصل وإخلاصهم في الدفع به إلى مراحل الإنجاز، فالقواعد العسكرية الأمريكية والإسرائيلية تنتشر على امتداد أرضهم ومياههم الإقليمية في الخليج العربي، والعلاقات الوثيقة على المستويات كافة خرجت إلى العلن بكل خزيها وقبحها، من خلال اتفاقات التطبيع الشامل مع الكيان الإسرائيلي، رغم محاولاتهم البائسة لتقديم مبررات لكل هذا الخزي، منها ادعاء الخوف من عداء بعض الأشرار في المحيط العربي أو بعض الدول الإسلامية، وهي مجرد مغالطات هدفها القفز فوق متوالية من الحقائق، ساقتها وكشفتها تباعاً عقود من الزمن، جميعها تثبت أن السعودية كانت ولا تزال السند الأكبر لتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى".

 

ويرجح المراقبون أن ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، ربما سيكون الأول من بين السلالة الملكية الذي سيحذف صفة "خادم الحرمين الشريفين"، بمجرد أن تحين ساعة أبيه، أو تستدعي المصالح الأمريكية الإسرائيلية إنهاء حكمه، رغم أنه فعلياً في حكم المنتهي، فمنذ عام 2015م وبن سلمان يضع اللمسات الأخيرة- وبشكل معلن- على جهود ومساعي أبيه وأجداده في خدمة المشروع الأمريكي الإسرائيلي، ليحظى بشرف تتويجه بمعدل النجاح الكامل، حيث بدأ بتحطيم وإلغاء منظومة القيم والأخلاقيات والأعراف التي تَنْظُم إيقاع الحياة في المجتمع السعودي المحافظ، واحتواء محيطه العربي بما يجنب إسرائيل أي عداء قد يسبب لها الضرر، وضمان أن العداء للكيان لن يصل إلى حد التفكير في حرب تؤدي إلى اجتثاثه، وهو دور لم يخرج فيه بن سلمان عن نطاق وسياقات المهمة التي أنشئت من أجلها مملكته، المهمة المرسومة بعناية فائقة ومضمونة النتائج، وكان من ضمنها إعلان الحرب على أي دولة تنهض فيها قوى أو توجهات معادية لإسرائيل، ومنها الحرب على سوريا والحرب على اليمن، والتي لا تزال مشتعلة حتى اللحظة، حتى أن النظام السعودي كلف رجال الدين التابعين لديوانه الملكي بإصدار فتاوى تُحرّم قتال الإسرائيليين وتجيز الحرب على اليمن وسوريا وأي قوى تعادي الصهاينة.

 

لم يعد محمد بن سلمان بحاجة إلى التخفي خلف صفة "خادم الحرمين الشريفين"، فقد أدت الصفة دورها على أكمل وجه، ولم يُبقِ هو بالذات أي حُرمةٍ أو قداسة لتلك المشاعر المقدسة، خصوصاً بعد إغلاقها أمام الحجاج لأسباب تافهة وغير مبررة، ويكشف سخريته من تلك المقدسات تعيينه لإدارتها أشخاصاً على شاكلته من حيث مواقفهم من الكيان الإسرائيلي، منهم الشيخ محمد العيسي عضو هيئة كبار العلماء، والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الذي أصبح خطيباً ليوم عرفة، في موسم الحج الضئيل المحدود المنصرم، وهو أحد الدعاة إلى التطبيع مع اليهود والمروجين له، كما أنه التقى عدداً من حاخامات اليهود، والتزم لهم بأن يكون أحد الداعمين لمشروع يطلق عليه "ديارنا"، وهو مشروع يعتبر مقبرة البقيع في المدينة المنورة إرثاً يهـودياً، أما فضيلة الشيخ الكلباني الذي عينه بن سلمان إماماً للحرم فقد ظهر مؤخراً بشكل مخزٍ وفاضح من أمام الحرم المكي المقدس، مرتدياً ملابس عليها شعار العلم الأمريكي والنجمة الإسرائيلية، في إشارة صريحة إلى السياسة التي تنتهجها سلطات بلاده وولي عهدها في طريق تحويل المجتمع السعودي إلى نسخة مشابهة للنموذج الغربي الإسرائيلي، المتناقض تماماً مع القيم والأعراف الدينية للمجتمعات الإسلامية والعربية، إضافة إلى ظهور صحافي إسرائيلي من داخل الحرم المقدس، والمُحرّم شرعاً على طائفته، متبجحاً بأنه استطاع أخيراً دخول مكان طالما كان محرماً عليه، ولا تزال الأيام المقبلة حبلى بكثير من الخزي والعار الذي يفتتح به بن سلمان عهده ويكلل به عهود آبائه وأجداده.