وثائق سرية تكشف لأول مرة.. ماذا تعرف عن أول جاسوس للموساد في اليمن ؟

YNP - أمجد خشافة :
قرر جهاز الموساد الاسرائيلي إرسال جاسوس رفيع المستوى إلى اليمن لأول مرة، جعلت الرئيس المصري حينها أنور السادات يتساءل بغرابة: ماذا تريد إسرائيل من اليمن؟

يكشف فلم وثائقي نشر مؤخراً بعنوان "جاسوس الموساد في اليمن"، أعده الباحث في التاريخ والاستراتيجيات عبدالله عامر، عن وثائق سرية لتفاصيل جاسوس أرسله الموساد الاسرائيلي إلى اليمن عام 1971م، تستمد هذه الوثائق أهميتها بكونها مذكرات رسمية صادرة عن جهاز الأمن التابع للجمهورية العربية اليمنية سابقاً، ولأنها أول مرة يتم تناولها، لتزيح الستار عن قصة رجل الموساد منذ وصوله إلى شواطئ الساحل الغربي وحتى إلقاء القبض عليه.
تدمير الناقلة "كورال سي"
في 1971م، تعرضت ناقلة النفط الإسرائيلية كورال سي إلى تدمير قرب منطقة باب المندب نتيجة لهجوم مسلح نفذه أربعة فدائيين فلسطينيين، في إطار مشروع المقاومة الفلسطينية ضد مصالح الاحتلال الاسرائيلي في مناطق أكثر حيوية.
عقب نجاح تدمير الناقلة بنصف ساعة، انسحب الفدائيون إلى الشواطئ اليمنية، حينها مباشرة، كلفت سلطات الاحتلال الاسرائيلي جهاز الموساد بإدارة الملف اليمني والرد بضربة عسكرية خاطفة على ميناء الحديدة وعدن ولكن تلك عملية بعد مهمة جمع المعلومات والنشاط الفلسطيني في اليمن.
التحركات السريعة الاسرائيلية تجاه اليمن لم يكن ردة فعل لتدمير ناقلة النفط فحسب، بل جاءت في إطار سياقات موقفها التاريخي من المجال الحيوي الغربي لليمن الممتد من ميناء الحديدة وحتى باب المندب. يقول بن عامر :" إن قرار الاستهداف بدأ منذ محاولتها اقناع بريطانيا بعدم الخروج من عدن وبقائها في جزيرة ميون واستمرار تأمين الملاحة لإسرائيل في البحر الأحمر، إلا أن بريطانيا فشلت في البقاء فسعت إسرائيل لتدويل باب المندب".
تعتقد إسرائيل أن جزيرة ميون إذا سقطت في أيدي غير صديقة فقد يؤدي ذلك إلى موقف خطير، ويجب أن تكون السلطة إذن صديقة.
مهمة الجاسوس رقم (1)
قرر الموساد الاسرائيلي إرسال أبرز ضباطه إلى اليمن، وتجهيزه بكل ماله علاقه بالسفر بما فيه جواز مزور بهوية يمنية، حصل عليه من دبلوماسي يمني في عاصمة دولة افريقية، يُعلق الباحث عبدالله بن عامر لقد امتلك الجاسوس على الجواز مقابل "كمية من قوارير الخمر".
وصل الجاسوس إلى عدن في 20 يونيو 1971م قادما من العاصمة نيروبي، باسم أحمد سعيد الصباغ، تاجر ألعاب أطفال، لكن سينكشف اسمه الحقيقي فيما بعد باروخ زكي مزراحي، وبدأت مهمته في معرفة حجم الكتلة العسكرية، ومحاولة وصف السلطة السياسية وخلافات الجبهة القومية، والتوترات العسكرية مع الشطر الشمالي.
ينقل الفلم الوثائقي من مذكرات باروخ قوله :" رأيت التحشيدات العسكرية على الحدود، وهناك قرار بالتجنيد الاجباري للطلاب والعمال واستعدادات للحرب ويصل عدد المليشيا الى 40 الف، لقد استنتجت أن السعودية لا تريد حكما يساريا متطرفا على حدودها، وأنها تقف خلف دفع الشمال للحرب".
انتهت مهمة باروخ رقم واحد وغادر اليمن، ليعود مرة أخرى إلى الجمهورية العربية اليمنية.
مهمة الجاسوس رقم (2)
وصل باروخ للمرة الثانية في نفس العام، إلى مطار تعز قادما من العاصمة الارتيرية أسمرة، لتقصي معلومات حول الشريط الساحلي الغربي، فهو بنظر اسرائيل يشكل لها تهديداً حقيقيا في حركة الملاحة الخاصة بها في البحر الاحمر وأن الضربة العسكرية تقتضي قبلها جمع المعلومات عنها.
قبل أن يذهب إلى الحديدة اتجه نحو العاصمة صنعاء، هناك وجد كل شيء يتحدث، المجتمع والتاريخ، والحضارة والثقافة، فدون كل ما لفت نظره.
لقد عثر في مذكراته تدوين كلمة السلتة وبنت الصحن، لكن لماذا يهتم الجاسوس لهذه التفاصيل؟ تلك تدوينات لمأكولات تبدو تافهة لا تقول شيئاً لكن الجاسوس لا تنفك بنيته الشخصية من شغف المعرفة بالتفاصيل للوصول إلى تصوراته الكلية وسردها بإتقان.
يقول باروخ في مذكراته" صنعاء تنام ليلا ولا توجد مراقص ليلة" ثم لجأ لمعرفة طبيعة الصلاة التي يحافظ اليمنيون عليها والتدقيق في بينة القبيلة وزعاماتها ودورهم في المجتمع، والتركيز الاكبر إلى الجانب العسكري.
قرر الجاسوس السفر إلى الحديدة، ومن هناك بدأ في المهمة الأكثر حساسية، دخل إلى ميناء الحديدة باسم تاجر مغربي حصل على ترخيص من السلطات، فبدأ برسم الخرائط الخاصة بموقع الميناء، ووصف لأهم ما فيه من مباني ومخازن.
استكمل جمع المعلومات عن ميناء الحديدة واستعد للمغادرة، لكن قبل ذلك حاول التقاط صور عام من الساحل، فأثر شكوك قائد الكتيبة المدفعية في الدفاع الساحلي محمد المقبلي الذي على مقربه من الجاسوس باروخ، الأمر دفعه للسؤال عن هويته، ثم انتهى الموقف بالقبض عليه وارساله إلى الادارة العامة لأمن الحديدة للتحقيق معه، ومن هنا بدأت مراحل قصة إفشال أول عملية تجسس اسرائيلية على اليمن.
وثائق من مذكرات الجاسوس
نقل الجاسوس باروخ إلى صنعاء، للتحقيق معه، ولقد استند الفلم على تفاصيل هوية باروخ ومهمته منذ تجنيده بجمع المعلومات عن وحتى اللقاء القبض عليه من وثائق هذه التحقيقات التابعة لوزارة الداخلية التابعة للشطر الشمالي حينها.
وحصلت وزارة الداخلية على مذكرات للجاسوس في مقر إقامته المؤقت في الحديدة، حيث تضنت هذه المذكرات على 320 صورة معظمها لمواقع عسكرية في الحديدة والقوات البحرية والسواحل، وهذا يشمل صنعاء وتعز، إضافة إلى تدوينات عن رحلته من تعز إلى صنعاء، وتفاصيل الحياة المعيشية كالتخطيط الزراعي المتبع ونمط التجنيد فإما اذا كان اجباري أم لا، وأخيراً خارطة عن ميناء الحديدة، شرح فيها معظم تفاصيله ومبانيه المهمة.
وأخيراً اعترف باروخ:
بعد أن نقل الجاسوس باروخ إلى صنعاء للتحقيق معه اعترف بعد ضغط الاسئلة أنه يعمل لصالح المخابرات الامريكية وأنه مُكلف بجمع معلومات لأنها تريد استهداف المصالح الخاصة بالاتحاد السوفياتي.
كادت السلطات اليمنية أن تفرج عنه بعد اقتناعهم أنه هويته مغربية واسمه أحمد الصباغ ويعمل لصالح أمريكا، وهذا يعود لأن الشطر الشمالي كان يستعد لعقد علاقات مع أمريكا بواسطة سعودية، لكن ابراهيم الحمدي استعان بضباط مصريين لتفكيك بعض الالغاز حول مذكرات الجاسوس وأهدافها، فوصل ضباط مصريين متخصصين للتحقق من التدوينات واستجواب الجاسوس مرة اخرى.
اكتشف الخبراء أن الصور بعد أن جمعت في مربع واحدة أنها تعود لميناء الحديدة، وتوصلوا إلى أن باروخ يعمل لصالح الموساد الاسرائيلي، ثم بدأت الاعترافات الجديدة حيث يقول:" إن اسرائيل تعتبر أي استهداف لحركة الملاحة الدولية في البحر الاحمر الخاصة بها وكان هذا الاستهداف من الجمهورية العربية اليمنية فستقوم بضرب ميناء الحديدة، واذا كان الاستهداف لها من الجمهورية الديموقراطية الشعبية فستستهدف ميناء عدن.
لم يعد للجاسوس أي أهمية بالنسبة للسلطة في الجمهورية العربية اليمنية بعد أن اعترف بكل ما لديه، فجرى تفاهم مع الجانب المصري لنقله إلى القاهرة، وحين وصل للقاهرة أعلنت الصحافة المصرية عن إلقاء القبض على جاسوس اسرائيلي في اليمن فعرفت اسرائيل بمصير جاسوسها.
استفادت مصر من الجاسوس باروخ حول الاسرار العسكرية الاسرائيلية والمعركة التي شنتها على الجيش المصري في 1973، بعدها بدأت مفاوضات بين الجانبين للإفراج عنه ضمن صفقة تبادل أسرى بعد حرب 73م، فقد اهتم هنري كيسنجر وزير خارجة أمريكا حينها بنقل الجاسوس الى اسرائيل بعد زيارته القاهرة.
ضابط يعمل لصالح الموساد.. من هو؟
لم تنتهي اهتمامات اسرائيل باليمن بانتهاء قضية باروخ والافراج عنه، فقد ظلت عينها على البحر الأحمر ومحاولة إبقائه في مجالها الحيوي الآمن لها، لكن الجمهورية العربية اليمنية حينها كانت قد صعد لرئاستها إبراهيم الحمدي الرجل الأكثر إيماناً بهويته اليمنية الأرض والانسان، فدفعت بضباط جواسيس يلتفون حوله بهدف العمل لصالح اسرائيل.
ينقل الفلم عن حديث أحد الضباط قوله:" إنه صار بالامكان الوصول إلى السلطة، بانقلاب عسكري والسيطرة عليها !.
كان للحمدي وهو يصعد نحو السلطة خرائط استراتيجية لإدارة البلاد من بينها تأمين باب المندب، فقرر عام 1976م إغلاق المجال الجوي له، ووضع إطار للعلاقات مع الآخر، من بينها أن اسرائيل هي العدو، وبمقدوره الدفاع عن الاراضي اليمنية.
اغتيل الحمدي وتوقفت اليمن عن فرض سيادتها على باب المندب، ومنذ ذلك الحين واليمن تفقد قراراتها السيادية من يوم لآخر حتى تلاشى في الوقت الراهن بعد أن سيطر وكلاء الغرب والموساد على السواحل اليمنية.