شارع المطاعم في صنعاء كأس حياة بنكهة عدنية  

 

YNP: مارش الحسام

 

تمثل المقاهي الشعبية في صنعاء متنفسا لكثير من المواطنين، ولعل أبرزها تلك التي تقع وسط العاصمة، وتحديدا في منطقة التحرير، وما يعرف بـ»شارع المطاعم» الذي يقصده كثيرون بشكل مستمر لقضاء أوقات ممتعة.

يتوسط شارع المطاعم المنطقة الواقعة بين مدرسة جمال عبدالناصر وميدان التحرير، ويبدو محشورا وسط عدد من المباني القديمة تصطف على جانبيه مطاعم ومقاه شعبية تقدم خدماتها على الهواء الطلق، وتشهد ازدحاما من ساعات الصباح الأولى وحتى المساء.

زخم شعبي

رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها اليمنيون بسبب العدوان والحصار، مازال شارع المطاعم بذاك الزخم الشعبي المتنوع كما كان عليه زمان، ومازال مقصدا مثاليا لكثير من المثقفين والفنانين والرياضيين والسياسيين والمفكرين والأدباء والصحفيين والعاطلين والطلاب والمواطنين بمختلف شرائحهم.

تسميات متعددة

حملت المنطقة التي تتواجد فيها هذه المقاهي الشعبية أكثر من تسمية رديفة إلى جانب شهرتها باسم «شارع المطاعم»، وكان يطلق عليها اسم «شارع النزيلي»، وحملت أيضاً اسم «شارع المواصلات» ومن ثم «الشارع العدني»، وجميع هذه التسميات آلت إلى زوال لتستقر التسمية الوحيدة والشهيرة والمعروفة بـ»شارع المطاعم».

نسخة من عدن

العقيد والكاتب اليمني أحمد القردعي الذي يرتاد شارع المطاعم منذ أكثر من 30 عاما وحتى اليوم، يقول: «تسمية هذا المكان بشارع المطاعم نسبة لكثرة المطاعم هنا والتي تم افتتاحها بعد ثورة 26 سبتمبر، وفي السبعينيات كان يطلق عليه شارع المواصلات نسبة إلى وزارة المواصلات التي كان مقرها حينذاك على بعد أمتار من هذه المنطقة، كان مقرها ما يعرف حاليا بمبنى المؤسسة العامة للاتصالات والبريد، فرع أمانة العاصمة، وبعد الوحدة كان يطلق عليه اسم الشارع العدني، إذ كان يتوافد إليه كثير من أبناء عدن والمحافظات الجنوبية ممن انتقلوا إلى صنعاء بعد وحدة الشطرين».

بعد الوحدة تحول هذا المكان إلى نسخة من مقاهي عدن، وكان الشخص يجد نفسه كما لو أنه ينتقل إلى مدينة عدن، بحسب القردعي.

ويضيف: «هنا كنت تحس بالجو العدني، وكانت تقدم فيه مختلف الأكلات العدنية، وحتى العادات والتقاليد العدنية كانت حاضرة، وكان هناك أكثر من حانوت لبيع الشمة العدني (البردقان)، والتمبل والزردة، ولكن بعد التحولات السياسية التي شهدتها فترة ما بعد ما تعرف بحرب صيف 94، والتي تسببت برحيل كثير من أبناء المحافظات الجنوبية، اختفت الكثير من المظاهر العدنية عن هذا المكان الذي عاد إلى اسمه الأول: شارع المطاعم».

شهرة كبيرة

الإعلامي محمد المطاع يقول إنه يرتاد شارع المطاعم منذ أكثر من ربع قرن وحتى اليوم، وذلك للاستمتاع بمذاق الشاي العدني.

ويعتقد المطاع أن تسمية هذه المكان بشارع المطاعم جاءت نسبة للمطاعم التي فتحت فيه كأول مطاعم يفتحها الإخوة من أبناء محافظة تعز في العاصمة صنعاء في بداية الثورة، وأشهرها بوفية «مدهش».

ويلفت إلى أن الشارع اشتهر بأسماء أخرى كـ»ملتقى أبناء عدن» و»شارع العدنيين».

ويتابع: «نال هذا الشارع شهرة كبيرة، وكان يرتاده فئات مختلفة من اليمنيين، وعلى وجه الخصوص أبناء المحافظات الجنوبية الذين كانوا يقصدون العاصمة صنعاء بغية الحصول على جوازات سفر للاغتراب في السعودية ودول الخليج، كون هذه الدول لم تكن تسمح لمواطني أو حاملي جوازات دولة الجنوب بالدخول إلى أراضيها، إضافة إلى بعض الإخوة النازحين إلى صنعاء من أبناء الجنوب لأسباب سياسية».

تلاشي السمات العدنية

إلى ما قبل أحداث 7/7 كان الزائر لهذه المقاهي يجد نفسه كما لو أنه في مدينة عدن، غير أن حرب صيف 94 أحدثت شرخا بين أبناء الوطن الواحد، وعلى إثرها غادر كثيرون من أبناء المحافظات الجنوبية صنعاء، ومع ذلك ظلت كثير من السمات العدنية وحتى وقت قريب تطغى على هذا المكان الذي بات يشهد انحسارا تدريجيا لتلك السمات العدنية التي تتلاشى شيئا فشيئا، وكانت البداية اختفاء حوانيت بيع الزردة والتمبل الذي يمضغه أبناء عدن، ليشهد المكان اختفاء كثير من الأكلات العدنية، وآخر المطاعم المختصة بتقديم الوجبات العدنية أغلق أبوابه قبل خمسة أشهر، معلنا بذلك طي صفحة الزوربيان وباقي الأكلات العدنية التي لم يتبق منها سوى ما تجود به المطاعم الشعبية الأخرى،فيما الشاي العدني مازال يتسيد المكان عبر مقهى مدهش الملقب بملك الشاي العدني، والذي يحظى بشعبية جارفة ويتقاطر إليه المواطنون من كل حدب في العاصمة.

يمن مصغر

انحسار بعض الأجواء العدنية من شارع المطاعم كان سببا في تحول المكان إلى مجتمع يمني مصغر، وأفسح المجال للمحافظات اليمنية الأخرى أن تضع بصمتها على المكان.

فإلى جانب الشاي العدني حضر الجبن التعزي والملوج الصنعاني والمخلوطة الحديدية وغيرها من الأكلات التي تتميز بها بعض المحافظات اليمنية.

وإذا كان الزائر لهذا المكان في ما مضى يجد نفسه كما لو أنه انتقل إلى عدن، فإنه الآن يجد نفسه في مجتمع يمني مصغر ليس فقط على مستوى تنوع الأطعمة، وإنما على مستوى زواره أيضاً، وطاولة واحدة تجمع ثقافات متباينة ولهجات مختلفة.

الأكل البلدي

لطفي عبدالله محمد سيف (طالب جامعي) يقول إنه يرتاد شارع المطاعم مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً، وذلك للاستمتاع بالنكهة التقليدية للطعام.

ويضيف سيف: «الصبوح والعشاء هنا له مذاق مختلف، الأكلات هنا تتميز عن غيرها بالنكهة البلدية التي تفتقدها الأماكن الأخرى».

ويتابع: «الأكل هنا بلدي وعلى طريقة الريف اليمني، هنا تجد الخبز الساخن المدهون بالسمن، أو المقلي مع البيض، سحاوق الجبن التي يتم تحضيرها على الطريقة الريفية، إذ يتم إضافة التوابل والنباتات العطرية، كما أن الجو الشعبي يضفي على الطعام نكهة مميزة».

قدسية وحلقة وصل

يقول الحاج علي الحفاشي، من محافظة المحويت، إن ذكرياته مع شارع المطاعم تمتد لأكثر من 40 عاما، إذ بدأت منذ أيام الطفولة حين كان طالبا في مدرسة جمال عبدالناصر.

ويضيف الحفاشي: «هذا المكان له قدسية، نحن عشنا فيه ولنا ذكريات جميلة من أيام المدرسة ونحن أطفال صغار. هنا ألتقي مع أبناء جيلي ممن كانوا رفاقي في مدرسة جمال عبدالناصر، حيث كنا نقضي هنا فترة الراحة حتى إتمامنا الثانوية العامة، وبعدها تفرقنا؛ فمنهم من سافر للدراسة في الخارج وانشغل بالدراسة الجامعية، ومنهم من توظف، وكثير من الزملاء انقطعت أخبارهم، فلم يكن هناك حينها موبايلات للتواصل، بعد سنوات من الشتات كان يحدث أن نلتقي صدفة مع هذا الزميل أو ذاك في هذا المكان.. اليوم ونحن في مرحلة المشيب صرنا نجتمع صباح كل يوم لاحتساء الشاي العدني ونتحدث عن المستجدات والمشاكل اليومية».

المكان تعرض للتشويه

عدد من الشخصيات المعروفة ممن التقيناهم في شارع المطاعم رفضوا الحديث حول شارع المطاعم لكونه ينال من مكانتهم، وذلك باعتبار أن هذا المكان حمل سمعة سيئة لا أخلاقية، كما لو أنه وكر مشبوه أو ماخور.

أحدهم اشترط عدم ذكر اسمه يقول: «المكان تعرض للتشويه من قبل النظام السابق كجزء من حربه على المعارضين السياسيين الذين كانوا يرتادون هذا المكان باستمرار كتجمع للمعارضين».

العرعرة

فيما كان للإعلامي محمد المطاع رأي آخر عن السمعة التي لحقت بشارع المطاعم، إذ يقول: «رغم أن مرتادي هذا الشارع وهذه المطاعم والبوفيات كانوا من أبناء اليمن شمالاً وجنوباً، إلا إنه تم إطلاق أحاديث وروايات كثيرة حول هذا الشارع، منها ما هو غير صحيح، وخصوصاً إشاعة أنه ملتقى لـ»السراسرة» و»قليلي الحياء» و»السفهان» وغيرها.. وهذه المقولات والتسميات التي ذكرتها كان سببها اختلاف السلوك البيئي التخاطبي بين الأفراد.. فأبناء صنعاء وسلوكهم البيئي في التخاطب، غير أبناء تعز، وكذلك أبناء عدن والمحافظات الجنوبية».

ويواصل: «السلوك البيئي للتخاطب عند أبناء صنعاء يخلو من ذكر أو الإشارة إلى النساء أو السباب بشكل عام، بينما السلوك البيئي التخاطبي عند أبناء تعز وعدن وبعض المحافظات الجنوبية يختلف نوعاً ما ويغلب عليه ما يسمى حالياً «العرعرة».. ونتيجة ذلك اكتسب هذا الشارع صيتاً سيئاً عند أبناء صنعاء وضواحيها، الذين يعتبرون التخاطب بتلك الطريقة عيباً كبيراً قد يؤدي إلى القتل، بينما هو عند أبناء تعز وعدن وبعض المحافظات الجنوبية سلوك تخاطب عادي لا عيب فيه، رغم كونه أسلوب تخاطب منفراً لأبناء صنعاء وضواحيها وما جاورها».

الملك

يضم شارع المطاعم عدداً من المقاهي، وأكثرها شهرة في هذا المكان هو مقهى مدهش لصاحبه مدهش عبادل.

يتميز مقهى مدهش بتحضير وتقديم الشاي العدني بنكهته الفريدة ومذاقه الرائع، وهو ما أكسبه شهرة كبيرة داخل العاصمة، وما أكسب المكان زخما كبيرا، ويؤكد عدد من الزبائن أنهم يرتادون شارع المطاعم حيث يوجد أفضل شاي.

ويلقب مدهش بالملك (ملك الشاي العدني) لجودة الشاي الذي يقدمه على مدى ربع قرن.

ويوضح الملك مدهش عبادل، أن جودة الشاي تكمن في «النَفَس» عند تحضيره وتقديمه. مضيفا: «لم يعد هناك أسرار في تحضير الشاي».

ويؤكد أنه جاء إلى شارع المطاعم منتصف التسعينيات حاملا معه طريقته الخاصة بتحضير الشاي وخلطة التوابل التي تضفي على الشاي نكهة فريدة ومذاقاً جميلاً.

يضيف مدهش: «ليس هناك أسرار في تحضير الشاي، وإنما كل شخص له طريقته في تحضيره، وأنا طريقتي لم تعد خافية ولم تكن سرا، لأني أؤمن بأن الرزق على الله، ونقلت خبرتي لعشرات العمال ممن تناوبوا على العمل لدي على مدى حوالي 25 سنة، حاليا كثير من العمال انتقلوا للعمل في مقاه أخرى بعد أن علمتهم طريقة تحضير الشاي وخلطة التوابل الخاصة بالشاي، ومنهم من افتتح له مقهى خاصاً به.

-لا ميديا