من الهيمنة إلى التجريب.. كيف أربكت البحرية اليمنية الترسانة الأمريكية ؟

YNP  / إبراهيم القانص - 

في تطور يعكس عمق التحولات الجارية في موازين القوى الإقليمية والدولية، نشر معهد البحرية الأمريكي تقريراً عسكرياً بعنوان "ليكن البحر الأحمر ميدان اختبار البحرية للزوارق السطحية غير المأهولة"، دعا فيه إلى تحويل البحر الأحمر إلى حقل تجارب مباشر لتقنيات الحرب البحرية المستقبلية. غير أن ما بين سطور التقرير يكشف اعترافاً صريحاً بعجز القوة الأمريكية وحلفائها أمام القدرات البحرية اليمنية، التي تمكنت خلال الأشهر الماضية من فرض معادلات جديدة في ممرات الملاحة الدولية.


يُقرّ التقرير، للمرة الأولى، بأن الأسطول الأمريكي فشل في حماية السفن التجارية أو في اعتراض الهجمات البحرية اليمنية التي باتت تستهدف عمق النفوذ الأمريكي في البحر الأحمر. ورغم إنفاق واشنطن وحلفائها أكثر من مليار دولار على صواريخ الاعتراض والعمليات الجوية، فإن النتائج جاءت محدودة، ما دفع بالكاتب جون غولدن إلى الدعوة لتحويل الهزيمة إلى فرصة اختبار للأنظمة الجديدة، في ما يشبه "الهروب إلى الأمام".
اللافت في التقرير أنه يصف القوات اليمنية- وتحديداً بحرية "أنصار الله"- بأنها "من أكثر الخصوم نشاطاً وابتكاراً في العالم"، وهو توصيف نادر في الأدبيات العسكرية الأمريكية، يعكس اعترافاً ضمنياً بأن تكتيكات الحرب اليمنية تجاوزت قدرة الجيوش النظامية على المواجهة الكلاسيكية.
يقترح التقرير الأمريكي أن يكون البحر الأحمر ميدان اختبار للزوارق السطحية غير المأهولة، في مهام المراقبة، الإنذار المبكر، مرافقة السفن التجارية، وحتى تشويش الزوارق اليمنية عبر وسائل ميكانيكية أو إلكترونية. لكن خلف هذه المقترحات التقنية يختبئ إدراك استراتيجي مؤلم: أن واشنطن لم تعد تملك حرية الحركة التي كانت تتمتع بها في أحد أهم الممرات البحرية في العالم.
تحويل البحر الأحمر إلى "مختبر ميداني" لا يُعبّر عن طموح عسكري بقدر ما يُعبّر عن أزمة ثقة داخل المؤسسة البحرية الأمريكية، التي وجدت نفسها في مواجهة خصم غير تقليدي، يجيد العمل في بيئة معقدة، ويستخدم وسائل بسيطة لكنها فعّالة ومباغتة.
الولايات المتحدة، التي وعدت شركاءها بحماية الملاحة وضمان "حرية التجارة"، تجد نفسها اليوم عاجزة أمام عمليات بحرية غير نظامية لكنها شديدة التأثير. وهو ما يجعل الدعوة إلى إدخال أنظمة غير مأهولة محاولة لتقليل الخسائر البشرية والسياسية في آن واحد.
ما بين السطور، يعترف التقرير بأن اليمن نجح في نقل المعركة من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، فارضاً معادلات جديدة في الردع البحري، ومحوّلاً البحر الأحمر إلى منطقة نزاع مفتوحة تقيّد حركة الأساطيل الغربية. هذا التحول لا يعني فقط تغير موازين القوة في المنطقة، بل يعيد تعريف مفاهيم "السيطرة البحرية" التي طالما اعتبرتها واشنطن أحد أعمدة هيمنتها العالمية.
دعوة معهد البحرية الأمريكي لتحويل البحر الأحمر إلى ساحة اختبار ليست مجرد مقترح تكتيكي، بل إشارة إلى مأزق استراتيجي تمر به واشنطن بعد فشلها في أوكرانيا وتراجع قدرتها على فرض الهيمنة في الشرق الأوسط. فحين تتحول الساحات الحيوية إلى "مختبرات تجريبية"، فهذا يعني أن القوة المهيمنة بدأت تفقد زمام المبادرة وتبحث عن حلول في المجهول.
وبذلك، يمكن القول إن البحر الأحمر اليوم لم يعد مجرد ممر مائي استراتيجي، بل أصبح مرآة لانكشاف القوة الأمريكية، وميداناً جديداً لصعود الفاعلين غير التقليديين في النظام الدولي. اليمن، الذي واجه أقوى الأساطيل بأدوات محدودة، نجح في إعادة تعريف معادلات الردع، وفرض على واشنطن التفكير بأسلوب "التجريب" بعدما فقدت أدوات "الردع التقليدي".